مثل فزّة طفل | قصّة

المجموعة القصصيّة «أربعون أنا ونصف بصلة»

 

 

نتر عقب السيجارة إلى بعيد بسبّابته، ثمّ أخذ شهيقًا مبالغًا في عمقه وهو يجحظ بعينيه...

أحيانًا، يؤثّر إدماننا على السينما في مخيّلتنا، كأنّنا ننظر إلى أنفسنا من عدسة كاميرا خارجيّة. كان يريد بشهيقه المبالغ فيه ذاك أن يبدو – في كاميرا مخيّلته - كبطل الفيلم الّذي عاد لتوّه من يوم حافل وشاقّ. حبس شهيقه وفتح باب الـ ’ميني فان‘، ثمّ أفلت زفيره مع: "مساء الخير".

تتأقلم الحدقتان تدريجيًّا مع الظلام.

كان يصرّ دائمًا على أنّ اللحظة الأكثر إزعاجًا في برنامج التقنين الكهربائيّ هي لحظة عودة الضوء المفاجئة؛ حيث يشعر كأنّ أحدهم فتح باب الحمّام عنوة على حدقتيه. مدهش الفكر البشريّ كيف يدير عالمًا كاملًا منفصلًا عمّا يدور في الخاج.

قال لأفراد عائلته وأصدقائهم الّذين كانوا ينتظرونه داخل ’الميني فان‘: "مساء الخير"، وهو يفكّر كم هذه العبارة مناسبة لمساء الضاحية الغارقة في عتمة التقنين. لم يكن ثمّة غير حزمتي الضوء الصادرتين عن المصباحين الأماميّين للسيّارة والغبار يتراقص خلالهما، شطح في ذهنه وهو يفكّر أنّهما يشبهان حدقتي عينيه حين تعتادان الظّلام.

كانَ يعاني بالفعل من هذه المشكلة المزمنة، يشطّ في تفكيره ويغيب عن محدّثيه فجأة، ولم يفقأ فقاعته حينها إلّا هدير محرّك العربة العجوز الّذي سبّب غصّة لحظيّة للمصباحين الأماميّين – باب الحمّام مجدّدًا.

ابتسم في وجه محدّثيه؛ كان من السّهل التنبّؤ بعبارات مثل: "مساء النور، كيف حالك؟ تأخّرت قليلًا"، الّتي قيلت توًّا. يا لمكارم الابتسامة المصطنعة الّتي تصلح جوابًا على كثير من الكليشيهات. حاول الموازنة بين داخله وخارجه: "حسنًا، يمكن للجميع الاستفادة من مشوار عائليّ وسهرة في المطعم كهذه، حاوِلْ ضبطَ شطط أفكارك واستمتع بالسهرة".

- كيف الدراسة يا عمّو؟ 

- يا سلام، غير شكل. 

- قال هالبردات بالشام بيقصّو المسمار. 

- شو بدنا نساوي، ماشي الحال، بتشتّيلها شويّ كلّ فترة وبيخفّ البرد. 

- والميّ، شو صار بوضعها؟ 

- والله يا عمّ، عم بيقولو وضع "الفيجة" ماشي باتّجاه الحلحة. 

- الله يتلطّف بهالنّاس أحسن شي. 

استرخت عضلات وجهه حين أدار ’عمّو‘ رأسه وغيّر اتّجاه حديثه، وقال محدّثًا نفسه: "عظيم، الموضوع الكريه لم يُفْتَحْ بعد، لكنّ المساء ما زال شابًّا كما يقول الأمريكان".

دارت الأحاديث في السيّارة، فأسند رأسه إلى مسند المقعد وراح يفكّر بابتسامتها. عندما تكثر أسفار الإنسان، يصير ميّالًا إلى معاملة أيّ ركوب للسيّارة على أنّه درب سفر صغير.

أصبح يشتاق إليها كثيرًا في الآونة الأخيرة، اشتياقًا مختلفًا ولذيذًا... ما أجمل أن يكون لدى المرء شخص يفكّر فيه بلذّة، ويحبّ أن يشطح بالتفكير فيه. المسافر الوحيد يأنس في ليله من أن يكون لديه شريكة سفر في أفكاره تجعله يتمنّى لو يطول الطريق، يضع السمّاعات ويفكّر فيها على هدهدة الموسيقى: "تعال.. العين إلك تبرا/ ظلام، وطلعتك قمرة". من الطريف أن يكون وجهها يشبه القمر بالفعل!

لطالما أزعجه أنّ تاريخ الحبّ في التراث العربيّ استهلك تشبيه وجه الحبيبة بالقمر. لا يجوز تشبيه وجه كلّ من هبّ ودبّ بالقمر، فذلك إجحاف في حقّ الفتيات اللّاتي تشبه وجوههنّ القمر حقًّا.

صارت شطحات التفكير فيها تنتهي دائمًا بتنهّده الطويل وهو يقول: "إيييه.. الله يلعن أبو هالبلد"، وهو يؤمن أنّه لا يحقّ لأحد أن يلعن أبا البلد إلّا إن كان يعتبره جدّه.

فرامل السّيّارة أعادته إلى محيطه، استبدل بابتسامة شطحته الصادقة جدًّا ابتسامة تجاه محيطه لا تخلو من بعض الاصطناع. تذكّر أنّه كان يتحدّث البارحة عن الابتسامات: "الابتسامات الزّائفة فقط هي الّتي تسبّب تشنّجًا في عضلات الوجه، أمّا الابتسامات الصّادقة لا تفعل ذلك. ربّما لأنّ عضلات الوجه مهيّأة فزيولوجيًّا كي تبتسم بصدق فقط، أمّا الابتسامات المصطنعة فقد ظهرت حديثًا في مسيرة تطوّر الإنسان ولم تتكيّف الأجيال معها تمامًا بعد... يا حرام، الأجيال الجاية اللّي رح تخلق وعضلات وجوهها مصمّمة للابتسامات المزيّفة!".

حاول مرارًا أن يدرّب نفسه على مسايرة نمط الأغاني المفضّل لدى المطاعم، "خلص، عيش لحظتك واتمتّع بكلّ معطياتها يا زلمة".

- إي خالتو، كيف الألماني معك؟

بدأ ناقوس الموضوع الكريه يقرع، وبدا أنّ المساء أخذ يشيخ.

- والله الحمدلله يا خالتو. أنا عمومًا بحبّ اللّغات، بس بتعرفي لمّا القصّة تكون مفروضة ولازمة بشكل أو بآخر بتصير كريهة شويّ.. بس إنّو بلّشت صير متآلف مع اللّغة وعم حبّها.

- إي الله يوفّقك يا خالتو، وعقبال ما نباركلك بالفيزا.

عادت العائلتان إلى دائرة المواضيع الأخرى، فتنهّد عميقًا وعاد إلى ابتسامته الصادقة وأفكاره الّتي تتخطّفه خلفًا: "بتعرفي؟ مبارح كنت عم بتفرّج على ابن خالتي الصغير هو ومتسطّح بعربايتو وعم يضحك لحالو.. هيك، فرطان من الضحك بينو وبين حالو بدون صوت... قولتِك الطفل بهالعمر بيكون بيفكّر؟! ما أحلاه.. كتير هادي ماشالله - بيغرف القلب".

حين يشطح الإنسان الراشد في أفكاره مع نفسه ويبتسم وحده، يسخر منه من يراه وينعته بالجنون.

"إي يبلّطوا البحر!"، هكذا يقول صديقه المفضّل الّذي كان شريكه في السّكن منذ فترة. كان يراقبه أحيانًا وهو يشطح في أفكاره مستلقيًا على سريره، يضع هاتفه المحمول على ذقنه ويبتسم وحده – مثل ابن الخالة الرضيع تمامًا، وكم كان يبهجه ذلك ويجعله يبتسم وحده هو الآخر هامسًا لنفسه: "أجدب".

"يا ترى الأطفال بهالعمر بس يخلصوا تفكير، بيرخوا ابتسامتن بتنهيدة طويلة وهنّي عم يقولوا: إييه.. الله يلعن أبو هالبلد؟".

"ومثل فزّة طفل.. روحي تفزّ لو سمعت بطرواك".

- والله يا عمّو لازم تشدّلنا حيلك وتعجّل بإجراءات السّفر، ما عاد إلنا شي هون، وخصوصي إنتو الشباب.

 قَرْعُ الناقوس يصخب، والمساء يوشك على الاحتضار.

- هوّ هيك يا عمّ.

- وبعدين حتّى لو كان مرجوعك لهون.. بعد كم سنة بتخلص هالمعمعة وبترجع ومعك جنسيّة، أو عالأقل يا سيدي شهادة قد الدنيا من برا... يعني بترجع بقوّة وبيعاملوك معاملة خواجات.. هون يا عمّو سقفك إنّك تضلّ عم تتشنطط بهالسّرافيس وشنتايتك على ضهرك.

- الله كريم يا عمّ.

شكرَ لله على نعمة الأركيلة والتنفيخ.

أخيرًا، عندما شيّعوا المساء إلى منازلهم، كان يضحك في طريق العودة. هو لا يدخّن أصلًا، لكنّه يحبّ أن يتصوّر نفسه ينتر عقب السّيجارة بسبّابته قبل أن يقوم بعمل شاقّ كفتح باب الفان على مشوار لم يكن مهيَّأً له، مع أنّه في الحقيقة يكره جدًّا أن يرمي مخلّفاته في الشّارع كيفما اتّفق، وكان دائمًا يفرغ جيب حقيبته الخارجيّ من الأغلفة والمخلّفات فور عودته إلى المنزل، حتّى أنّه كان يطفئ أعقاب السجائر – الّتي يقدّمها له أصدقاؤه موسميًّا - على حافّة حاوية ما ويرميها داخلها ممّا يعرّضه للسّخرية، لكنّه لطالما تشهّى أن ينترها بسبّابته بعفويّة.

حين وصل إلى المنزل، كان في أمسّ الحاجة لحمل أفكار يومه الثّقيلة إلى السرير. أنهى بعض الأعمال المعلّقة على حاسبه المحمول ثمّ خلد إلى سريره، وشغّل الأغنية الّتي كان قد أدمن عليها مؤخّرًا.

أغفى على «قحطان العطّار» وهو يغنّي، لكنّ المنامات الّتي تذهب فيها إلى فتاة لتعترف لها بحبّك، فتخرج الـ ’أحبّك‘ من فمك "سأسافر"، تلك المنامات تحديدًا تأتيك بشكل كابوس يفتح على نومك باب الحمّام عنوة.

 

* من المجموعة القصصيّة «أربعون أنا ونصف بصلة» الصادرة حديثًا عن «دار الأهليّة للنشر والتوزيع» (2022)، والّتي كانت قد حصلت على إشادة لجنة تحكيم «مسابقة الكاتب الشابّ» مع توصية بالنشر والّتي تنظّمها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان». 

 


 

علاء عودة

 

 

كاتب فلسطينيّ سوريّ، يعمل في الترجمة والكتابة. صدرت له ترجمة روايتين: «صمت الفتيات» لبات باركر (2020)، و«في بحر مظلم وبارد» لإليزابيث بلاكويل (2020).